top of page

مقالات.أدب

عمر أبو ريشة شاعر موهوب وسياسي مشبوب

بقلم : نعيم مصطفى الفيل  

SHARE

عمر-أبو-ريشة.webp

سقب

ما إن أزمعت تناول قامة سامقة في تاريخنا الحديث حتى تزاحمت عليّ الأفكار  وانطلقت الأخيلة وراحت تتصارع بين بعضها كل يريد خطب ودهذه الشخصية، وترجمة حياتها بأسلوبه وطريقته؛ ليخرجها  بالحلة التي ينشدها، وحق لهم ذلك؛ لأنني أمام شخصية مركبة ومتعددة الخصائص والاختصاصات، تجمع بين التطبيق والنظري، بين العلمي والأدبي، بين العاطفة والعقل، وفي هذا العصر قلما تجد شخصية إلا وحبست في اختصاص ما، إن لم أقل في اختصاص الاختصاص، كالطبيب الذي يختص بالعين فقط، أو القلب فقط ....وكالمؤرخ الذي يختص بالعصر الجاهلي فحسب أو الأموي أو العباسي وهكذا...والحقيقة أنني سبق وأن تناولت بعض هذه الشخصيات المدهشة التي تستهويني وتجذبني وتبهرني  والتي أرى أن لها بصمة مغايرة لسواها، ومثيرة للجدل بطريقة إيجابية، وخاصة أننا أصبحنا نعيش في عصر انحسرت فيه القراءة، وانكمشت فيه التخصصات، بل إن أحدنا لم يعد يظفر ويفلح  إلا بطرف يسير من الاختصاص الذي اصطفاه.  

أمام هذه التداعيات، تطل علينا تلك الشخصية برأسها، لتساعدنا في تحديد هويتها وإماطة اللثام عن وجهها، وتترك لنا مساحة من التحليل والنقد والتقييم...

إنه الشاعر الكيميائي السياسي عمر أبوريشة.

وقبل الولوج في عالمه، وحط الرحال في ساحته لابد لي من ذكر وجهة نظري على جناح السرعة في هذا العَلَم.

يقول الفيلسوف نديم الجسر

 الفلسفة يابني بحر على خلاف البحور يجد راكبه الخطر والزيغ في سواحله وشطآنه والأمان والإيمان في لججه وأعماقه.

وأنا أرى أن الثقافة والاطلاع إذا وصلت إلى درجة الإفراط والتخمة والفيضان، فربما تؤدي عند البعض إلى الاضطراب والتخبط، بل تؤدي ببعضهم إلى الجنون، والذي أراه في شخصية أبي ريشة أنه لم يصل إلى الاطمئنان بل إلى التناقضات في بعض الأحيان، فقد نجده تارة مسلماً صوفياً ومدّاحاً للرسول عليه الصلاة والسلام، وطوراً يؤمن بعقيدة التقمص التي هي بعيدة كل البعد عن الإسلام المعروف، ولاغرو في ذلك عند هذا الشاعر، لأنه ماكاد يضع عصا ترحاله طوال حياته، ورأى ما رأى وقرأ ما قرأ من ثقافات تلك الدول، فوصل إلى ماوصل إليه.

هذه وجهة نظر مقتصرة على جانب الاعتقاد لديه، لكن إذا ما أردت الخوض في شعره ونتاجاته فذلك يتطلب مني كتباً.

لنعد إلى الرجل ونشرع بعض الوقت في زورق مسيرته.

يرى بعض الباحثين أن الشاعر نفسه أكّد أنه وُلِدَ في العام 1911 في عكا بفلسطين. في حين يرى آخرون أنه وُلِدَ سنة 1910 في منبج، وهي المدينة التي أنجبت البحتري، وأبي فراس الحمداني.

هو عمر بن شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة. وقد كان شافع من أبناء الأمراء في عشيرة الموالي، وهم أصحاب مجد مؤثل وبأس شديد، انحدروا من آل حيّار ابن مهنا بن عيسى من سلالة فضل بن أبي ربيعة من طيء، ونبت فيهم الشعر من قديم. وكان لهذه العشيرة قوة في عهد العثمانيين إذ حكمت أطراف المعرّة إلى حماة، وأرسل العثمانيون شافعاً إلى الآستانه لتلقي العلوم فيها، ولما حصَّل شيئاً منها، عاد إلى بلده وعمل موظفاً في الإدارة، ثم ترقّى إلى قائمقام في منبج.

كما ينقل بعض الصحفيين على لسان عمر أن أجداده، أمراء الموالي ورؤساء قبائل الطوفان والعابد والمهنا، قد قدموا من الحجاز، فأسر السلطان رشاد أحدهم، الذي هو أحمد كبير قبيلة الموالي، لتمرده على الوجود العثماني في شبه الجزيرة العربية، حيث توجد قلعة أبو ريشة. نقل العثمانيون رهينتهم أحمد إلى مدينة استانبول، وعلى ضفاف البوسفور اكتسب جد الشاعر احترام السلطان وتقديره، فتحول الغضب إلى رضا، وانقلبت النقمة مودة، جعلت الحاكم يأمر بأن يوضع على عمامة أسيره ريشة محلاّة بكريم الجوهر، فأصبحوا يُدعَون بأبي ريشة.

 

والده هو شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة، وُلِدَ في القرعون على ما يروي عمر. وعلى الرغم أنه أصبح قائمقام في منبج والخليل، فإنه أمضى سنين طويلة منفياً أو دائم الترحال، وبعد عودته من المنفى أقام في حلب، حيث عمل في الزراعة، ثم هجر الزراعة، وقبل منصب قائمقام طرابلس. وكان شافع شاعراً مجيداً، فقد كتب عدة قصائد في رثاء شوقي وحافظ وعمر المختار.

والدته هي خيرة الله بنت ابراهيم علي نور الدين اليشرطي، وهي فتاة فلسطينية من (عكا)، أما أبوها فقد كان شيخ الطريقة الشاذلية طريقة صوفية، أسسها أبو الحسن علي الشاذلي بتونس، وعنه انتشرت في شمال إفريقيا، وأذاعها بمصر مريده أبو العباس المرسي المتوفي بالإسكندرية سنة 1287م. تقوم في أساسها – كالطرق الصوفية الأخرى – على أذكار وأوراد.

 وعنها يقول عمر: "كانت طيَّب الله مثواها مكتبة ثمينة على رجلين، عنها حفظت الأشعار، والقصائد، والمطوّلات". كما يذكرها عمر بالتقدير والثناء، فيقول: "والدتي متصوفة منذ صغرها، أحاطتنا منذ صغرنا بعناية ذكية، وأشاعت حولنا جواً روحانياً، جعلنا لا نقيم وزناً للفوارق المذهبية، تربيتها أمدتني بقوة استطعت بها ولوج دروب الحب. فالضعف يجعل من يبتلي به أضعف من أن يحب"
ويتحدث عن جانب مهم منها، هو جانب الصوفية، فيقول: "عالم من الأنوثة زاخر بالحب مضيء بالرقة والحنان. غلبت عليها النزعة الصوفية، تشعر بالألم فتغني بصوتها الرخيم لتبدد الألم. أحبت من الشعراء المتصوفين علي وفا وبحر الصفا وعبد القادر الحمصي وحسن الحكيم". ويضيف: "لقد اتسع حديثها دائماً للحب المحدود والحب المطلق للذات الكبرى، وعلاقة الإنسان بها"

ومما هو جدير بالذكر أن أم عمر كانت تروي الشعر وبخاصة الشعر الصوفي. وقد عرف عمر التصوف منها، وكذلك أخذ عنها نظرته إلى الدين والحياة والحب، وكذلك مفهومه للتصوف، وكلفه بالجمال، وصداقته للموت.
اشتهر من إخوته وأخواته ظافر وزينب. أما ظافر فله ديوان شعر بعنوان "من نافذة الحب" طُبِعَ عام 1981، وأيضاً له ديوان ثانٍ "لحن المساء"، وأما زينب فكانت شاعرة جيدة، تهافتت كبريات الصحف على نشر قصائدها.



 

تعليمه

يذكر عمر أن والده ألحقه بعد عودته من المنفى بمدرسة النموذج الابتدائية في حلب، ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت سنة 1924 لكي يتم دراسته الثانوية، وكان عمر التلميذ يُعْرَفُ بالخطيب والشاعر والمؤلف المسرحي قبل أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره. كما أدرك أبو ريشة الشعراء الثلاثة الذين أنجبتهم الجامعة الأميركية، وهم "إبراهيم طوقان"، و"حافظ جميل"، و"وجيه البارودي" عن طريق الندوات التي كان يجتمع فيها إليهم أو عن طريق إدراكه لآثارهم أو بقايا شعرهم الغزلي المشترك". سافر إلى إنكلترا سنة 1929 ليدرس كيمياء الأصباغ والنسيج في مانشستر، لكنه على ما يبدو انصرف إلى الشعر يقرأ عيون الشعر الإنكليزي، وعلى الخصوص شعر شكسبير، شلي، كيتس، ميلتون، تنيسون، براونينغ، بو، غراي. كما أنه درس بودلير بوصفه شاعره المفضل، بالإضافة إلى بو.

 

عودته إلى حلب


تغلب الشاعر في عمر على الصناعي فيه، فانقلب إلى دراسة الأدب الإنكليزي، ولا يُعْرَفُ كم من ذلك الأدب استوعبه عمر في إقامته القصيرة في بريطانيا التي غادرها دون إكمال دراسته، وعاد من بريطانيا في ربيع عام 1932 لقضاء العطلة الصيفية في حلب حيث مكث هناك منصرفاً إلى الشعر وحده دون أن تنازعه (الكيمياء الصباغية) أو سواها من تعدد اختصاصات حاول دراستها هناك». وتسلَّم إدارة "دار الكتب الوطنية" بحلب التي أثرى مقتنياتها وشجَّعَ فئات المثقفين في دعمها.
 

انضمامه للسلك الدبلوماسي


كان الزعيم حسني الزعيم، والأستاذان الصقّال والكوراني – والثلاثة من حلب – على إعجاب كبير بالشاعر عمر أبي ريشة، الذي كان يومئذٍ مديراً لدار الكتب الوطنية في الشهباء. وكانت الحكومة في حاجة إلى سفراء ووزراء مفوَّضين، فاقترح الأستاذ فتح الله الصقال أن يعيِّن الأستاذ أبو ريشة سفيراً لنا في البرازيل، فاعترض حسن جبارة، وقال: إن تعيينه مخالف للقانون، لأنه لا يحمل شهادة جامعية تخوّله هذا الحق، وتتيح له تسلم هذه السفارة. وعندئذ تصدّى له الأستاذ الصقال قائلاً: ولكن عمر أكبر من الشهادات.
 

زواجه


تزوج عمر في التاسع من أيلول سنة 1939 من منيرة بنت محمد مراد، وكانت قد عاشت مع أسرتها في الأرجنتين، وكان والدها من كبار رجال الأعمال، ثم عادت إلى وطنها الأم لبنان مع والدتها وإخوتها بعد وفاة والدها، واستقرت في بيروت.
رافقت عمر إلى البلاد التي مثّل فيها سورية سفيراً زهاء ربع قرن. وكانت مثال السيدة النابهة في المجتمعات والأندية الثقافية. وأنجبت له ثلاثة أولاد هم رفيف وشافع وريف.

 

ثقافته


يحدثنا عمر عن تأثره بوالديه في طفولته فيما كانا يتلوانه من الشعر الصوفي. وهو يقول في ذلك: "في البيئة المتصوفة، حيث نشأت، أُتيحَ لي الإصغاء، وأنا بعد طفل إلى أناشيد لم أكن أسمع مثلها في غير تلك البيئة، فأرددها برفقة أهلي، وأصدقاء أهلي، دون أن أدرك أبعاد معانيها"
كان الشاعر قد بدأ بعيون الشعر العربي ينهل منها ويتمثلها، إلا أن مصدراً جديداً أغنى ثقافته أثناء إقامته في بريطانيا، وفي هذا نسمعه يصرِّح: "خلال إقامتي في بريطانيا، أُتِيحَ لي مجال التعمق في دراسة الشعر الإنكليزي بصورة خاصة والشعر العالمي بصورة عامة".

والمصدر الأخير الذي يشير إليه د.جميل علوش، فهو تجربته الدبلوماسية التي جعلته على احتكاك بعدد من الأمم والشعوب، مما هيأ له مناخاً ليطّلع على لغات جديدة، ويذكر البعض أنه كان يتقن ست لغات أو أكثر، وأنه كان يرفض قراءة الشعر مترجَماً، فيصرّ على قراءته بلغته، وبالتالي مكَّنَته هذه اللغات الكثيرة التي أتقنها أن يطَّلِع على إنتاج أدبي وافر ومتنوع.

 

تسلسل وظائف


1 عُيِّنَ عمر بعد عودته من إنكلترا مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، وبقي في هذه الوظيفة حتى سنة 1949، حين التحق بالسلك الدبلوماسي.

2 عُيِّنَ سنة 1949 ممثلاً لسورية في البرازيل.

3 عُيِّنَ سنة 1950 سفيراً لسورية في البرازيل (وزيراً مفوضاً في البرازيل(

4 عُيِّنَ سنة 1952 سفيراً لسورية في الأرجنتين.

5 عُيِّنَ سنة 1954 سفيراً لسورية في الهند.

6 عُيِّنَ سنة 1959 سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في النمسا.

7عُيِّنَ سنة 1961 سفيراً لسورية في الولايات المتحدة الأميركية.

8عُيِّنَ سنة 1964 سفيراً لسورية في الهند.

أحيل سنة 1971 على التقاعد، فعاد إلى لبنان ليجعل بيروت مقراً له، ولكن تفاقم الأحداث فيها حال دون ذلك، فسكن فترة في دمشق، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية.

 

مناصبه الفخرية وأوسمته


1عُيِّنَ عضواً مراسلاً لمجمع اللغة العربية في دمشق سنة 1948.

2عُيِّنَ عضواً في الأكاديمية البرازيلية للآداب.

3منحته الأرجنتين الوشاح الأكبر.

4عُيِّنَ عضواً للمجمع الهندي للثقافة العالمية، شغل فيه كرسي الأدب.

5 أعطته النمسا وشاح الثقافة.

6منحته الجامعة العالمية بالتعاون مع الطاولة المستديرة لجامعة الآداب في العالم في توكسون أريزونا دكتوراه الثقافة العالمية في الآداب عام 1981.

7 وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى من الرئيس اللبناني إلياس الهراوي.

 


 

عالميته

يذكر الباحثون إلى أن عمراً قد تسابقت الجامعات توطئه منابرها وترهف إليه مسامعها. يتكلم بفصحاه بين الفصّاح، ويحاضر بثلاث لغات أعجمية بين الأعاجم، ويقرأ آداب سبع أمم بألسنتها من غير لوثة ولا التواء، وينظم بالإنكليزية ديواناً يبزّ به شعراء اللغة الأقحاح.
 

الخطاب السياسي في شعر عمر أبو ريشة


لقد شب عمر أبو ريشة وسورية في نضال دامٍ مع الفرنسيين، والشرق في ثورة لاهبة ضد المستعمرين فكان لذلك أثره في نفسه، واتجه بشعره في تصوير كفاح الأمة العربية، هذا، ناهيك عما شهده من أحداث جسام حاقت بالمنطقة العربية، منذ اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور عام 1917، وغدر الحلفاء، مروراً بثورة فلسطين عام 1936، وصولاً إلى النكبة عام 1948، واستفحال هزيمة العرب فيما أسموه بالنكسة عام 1967، ناهيك أيضاً عن عمله الدبلوماسي على مدار ربع قرن تقريباً، كل هذا دمغ شعره بخطاب سياسي لا يمكن تجاهله!!.
كما أن نزعته الرومانسية تجلت أيضاً في شعره السياسي الذي اتخذ طابع الرفض والتحدي لممارسات السياسيين العرب، ولمواقف الضعف والتخاذل في القضايا القومية كالقضية الفلسطينية.
فموقفه من بلدان النفط العربية خصوصاً نراه حاضراً على سبيل المثال لا الحصر في قصيدة "هكذا"، وهي لاشك تعبر عن صرخة وجدان العربي تجاه أنانية قادته وعبثهم، ربما هذه الصرخة نراها حاضرة لدى الشعب الفلسطيني،
فهاهوذا يقدِّم قصيدته "هكذا" قائلاً: "في ليلة واحدة أنفق أحد رعايا المحميات البريطانية ستين ألف دولار على عشيقته".
يقول الناقد إيليا الحاوي: «الشاعر يشهِّر بأمراء الخليج الذين فاض عليهم المال، فذلوا به وهانوا واقتصرت حدود دنياهم على كأس الشهوة ومضجعها. أما الفروسية فقد اضمحلت. والقصيدة تجري في سياق من الكنايات التي توحي إيحاءها، كدأبه بين ماضي المجد والكبرياء والفقر، وقد تكنى عليهما بالخيل والخيام، وحاضر التهتك، وافتقار الكرامة، وقد مثل عليهما بالكأس والمضجع. وهو يحلم بالعربي القديم الفارس وخيمة الفقر والكبرياء، وليس في ذلك دفع للتقدم والحضارة وتحريض على عدم الأخذ بالعلم، وإنما هي عودة إلى ينبوع البطولة الأول، إلى الإيمان بالبسالة أي القوة في سبيل الحق، لإنقاذ الإنسان العربي من عاره. وعار الأمة يبدو في شعر عمر كعاره الشخصي، كأنه يحمله وحده

يقول في القصيدة:

 

صاح يا عبدُ، فرفَّ الطيبُ    واستعر الكأسُ وضجَّ المضجعُ!

منتهى دنياه، نهـدٌ شـرسٌ     وفمٌ سـمحٌ، وخصرٌ طـيِّعُ

بـدويٌّ، أورق الصـخرُ له      وجرى بالسـلسـبيل البلقـعُ

فـإذا النخوة والكِبَرُ علـى          ترف الأيـامِ جـرحٌ موجعُ

هانت الخيلُ علـى فرسانها! وانطوت تلك السـيوف القُطَّعُ

والخيـام الشمُّ مالت، وهوتْ    وعوت فيهـا الريـاح الأربعُ


قال يا حسناءُ ما شئتِ اطلبي   فكلانـا بالغوالـي مولـعُ

أختك الشـقراء، مدَّت كفهـا فاكتسـى من كل نجم إصبعُ

فانتقي أكـرمَ ما يهفـو لـه          معصـمٌ غضٌّ وجيدٌ أتلـعُ!

وتلاشى الطيب من مخدعه      وتـولاّه السـباتُ الممتـعُ

والذليـل العبد، دون الباب،     لا يغمض الطرفَ ولايضطجعُ!

والبطولات، علـى غربتها،      فـي مغانينـا، جيـاعٌ خشَّعُ

هـكذا، تُقتحم القدسُ علـى    غاصبيهـا، هكذا تُستـرجَعُ!!

وفاته

في يوم السبت 14 تموز 1990 رحل الشاعر الكبير عمر أبو ريشة إلى الدار الأبدية، وكان قد أُصِيبَ بجلطة دماغية، لزم الفراش على أثرها لمدة سبعة أشهر

 

مقتطفات من شعره:

لم يحبس الشاعر عمر أبوريشة شعره في غرض من أغراض الشعر فحسب وإنما تطرق إلى معظم الأغراض عبر مسيرته الطويلة والثرية، وهذا دأب معظم الشعراء عبر العصور القديمة والحديثة الكلاسيكيين والحداثيين ، وهو شاعر فذ لا يشق له غبار،ولا يقل فحولة عن الشعراء المتقدمين، فقد نظم في الوصف والرثاء والغزل والمدح والفخر...، وأجاد في الوطني والقومي، ولعل بعض قصائده ترتقى إلى عيون الشعر العربي ودرره وجواهره إن لم أقل معظمها.    

 

 

 

 

 

أمتي 

أمتي   هل   لك  بين  الأمم

                           منبر  للسيف  أو  للقلم

أتلقاك  وطرفي .. مطرق

                    خجلا   من  أمسك المنصرم

ويكاد   الدمع   يهمي  عابثا

                             ببقايا .. كبرياء ....الألم

أين  دنياك  التي  أوحت  إلى

                          وتري   كل  يتيم   النغم

كم  تخطيت على   أصدائه

                        ملعب   العز  ومغنى الشمم

وتهاديت كأني ... ساحب

                    مئزري   فوق   جباه  الأنجم

أمتي كم  غصة  دامية

                خنقت  نجوى  علاك في  فمي

أي  جرح  في  إبائي  راعف

                         فاته الآسي    فلم   يلتئم

ألاسرائيل .. تعلو ...راية

                    في حمى المهد وظل الحرم !؟

كيف  أغضيت على الذل  ولم

                        تنفضي  عنك  غبار  التهم  ؟

أوما  كنت  إذا  البغي  اعتدى

                          موجة  من  لهب أو من دم  !؟

كيف   أقدمت وأحجمت   ولم

                              يشتف  الثأر  ولم  تنتقمي   ؟

اسمعي نوح الحزانى  واطربي

                               وانظري دمع اليتامى  وابسمي

ودعي  القادة   في  أهوائها

                                تتفانى   في  خسيس  المغنم

رب  وامعتصماه  انطلقت

                                      ملء أفواه البنات اليتم

لامست  أسماعهم ..... لكنها

                             لم   تلامس  نخوة   المعتصم

أمتي  كم صنم  مجدته

                           لم  يكن  يحمل  طهر   الصنم

لايلام  الذئب   في  عدوانه

                               إن   يك  الراعي  عدوَّ   الغنم

فاحبسي  الشكوى  فلولاك  لما

                               كان  في  الحكم  عبيدُ  الدرهم

أيها   الجندي  يا  كبش   الفدا

                                   يا  شعاع   الأمل  المبتسم

ما  عرفت  البخل بالروح  إذا

                                  طلبتها  غصص المجد  الظمي

بورك   الجرح  الذي   تحمله

                                     شرفا تحت   ظلال  العلم

 

 

رب ضاقت ملاعبي

 

رب ضاقت مـلاعبي

                  فـي الـدروب الـمقيدة

أنـا عـمر مـخضب

                   وأمـانٍ   مـشـردة

ونـشـيد خـنقت فـي

                  كـبـريـائي  تـنـهده

رب مـا زلـت  ضاربا

                  مــن زمـاني تـمرده

صـغر  اليأس لن  يرى

                         بـين  عـيني  مـقصده

بـسـمـاتي سـخـية

                       وجـراحـي مـضمدة

 

 

هي والدنيا

هـي والدنيا وما بـينهما

              غصصي الحرى وأهوائي العنيدة

رحـلة لـلشوق لـم أبـلغ  بها

                مـا أرتـني من فراديس  بعيدة

طـال دربـي وانتهى زادي  له

             ومضى عمري على ظهر قصيدة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عروس المجد

يا عروس المجد تيهي  واسحبي

                              فـي مـغانينا ذيـول الـشهب

لـن تـري حـفنة رمل  فوقها

                           لـم تـعطر بدما  حـر أبـيّ

درج  الـبـغي عـليها  حـقبة

                          وهــو ى دون بـلوغ  الأرب

وارتـمى كـبر الـليالي  دونها

                           لـين الـناب كـليل  الـمخلب

لا يـموت الـحق مهما  لطمت

                        عـارضيه  قـبضة  المغتصب

مـن هـنا شـق الهدى  أكمامه

                      وتـهادى  مـوكبا فـي  موكب

وأتـى الـدنيا فـرقت  طـربا

                    وانـتشت مـن عبقه  المنسكب

وتـغـنت بالمروءات   الـتي

                      عـرفتها  فـي فـتاها  العربي

أصـيدٌ  ضـاقتْ به  صحراؤه

                           فـأعـدَّتهُ لأفــقٍ  أرحــبِ

هـبَّ  لـلفتح فـأدمى  تـحته

                      حـافرُ الـمهر جـبينَ الكوكبِ

وأمـانيه انـتفاض الأرض من

                     غـيهب  الـذلِّ وذلِّ  الـغيهب

وانـطلاق الـنور حتى يرتوي

                          كـل جـفن بـالثرى مختضب

حـلم  ولـى ولـم يُـجرح  به

                    شـرفُ  المسعى ونبلُ  المطلب

يـا عروسَ المجد طالَ  الملتقى

                     بـعدما  طـال جوى  المغترب

سـكرت أجـيالنا فـي  زهوها

                   وغـفت عـن كـيد دهر  قُلّبِ

وصـحـونا  فــإذا  أعـناقنا

                  مـثـقلات  بـقيود  الأجـنبي

فـدعوناكِ  فـلم نـسمع  سوى

               زفـرة مـن صـدرك المكتئب

قـد عـرفنا مـهرك الغالي فلم

            نـرخص  الـمهر ولم  نحتسب

فـحـملنا لك إكـليل  الـوفا

               ومـشينا فـوق هـام  النوبِ

وأرقـنـاها  دمــاء حــرة

          فاغرفي  ما شئت منها  واشربي

وامـسحي دمع اليتامى وابسمي

               والمسي جرح الحزانى واطربي

نـحن مـن ضـعف بنينا  قوة

                      لــم تـلن لـلمارد  الـملتهب

كـم لـنا مـن ميسلون نفضت

                        عـن  جـناحيها غـبار التعب

كـم نـبت أسـيافنا في  ملعب

                       وكـبت  أفـراسنا فـي  ملعب

مـن  نـضال عاثر  مصطخب

                      لـنـضال عـاثر  مـصطخب

شرف  الوثبة أن ترضي  العلى

                  غُـلِبَ  الـواثبُ أم لـم  يُغْلَبِ

فـالتفِت من كوّةِ الفردوسِ يا

               فيصلَ العلياءَ وانظرْ واعجبِ

أترى كيفَ اشتفى الثأرُ من

                الــفاتـحِ المسترقِ المستلبِ ؟

و طوى ما طالَ من راياته

                   في ثنايا نجمهِ المحتجـبِ

ما نسينا دمعـةً عاصيتَها

                في وداعِ الأمـلِ المرتقـبِ

رجفتْ بالأمسِ سكرى ألمٍ

             فأسلها اليومَ سكرى طربِ !

يا لنعمى خفَّ في أظلالها

                 ما حملنا في ركابِ الحقبِ

أينما جالَ بنا الطرفُ انثنى

                  وطيوفُ الزهوِ فوقَ الهدبِ

هذه تربتُنا، لـن تزدهـي

                   بسوانا مـن حُماةٍ نُـدُبِ

فلنصنْ مَن حَرَمَ الملكَ لها

             منبرَ الحقـدِ وسيفَ الغضبِ

و لنُسلْ حنجرةَ الشدوِ بها

               بينَ أطلالِ الضحايا الغيّـبِ

ضلّت الأمّةُ إن أرختْ على

            جرحِ ماضيها كثيفَ الحجبِ !

مـا بلـغنا بعدُ من أحلامنا

                ذلكَ الحلـمَ الكـريمَ الذهبي

أينَ في القدسِ ضلوعٌ غضّةٌ

                 لم تلامسها ذنابى عقـربِ؟

وقفَ التاريـخُ في محرابها

              وقفةَ المرتجـفِ المضطـربِ

كم روى عنها أناشيدَ النّهى

                   في سماعِ العالمِ المستغـربِ؟

أيُّ أنشودةِ خزيٍ غصَّ في

                   بثّها بينَ الأسى والكـربِ

من لأبناءِ السـبايا ركبـوا

               للأماني البيضِ أشهى مركـبِ

و متى هزّوا علينا رايـةً

                  ما انطوتْ بينَ رخيصِ السَّلَبِ؟

ومَنِ الطاغي الذي مدَّ لهم

                   من سرابِ الحقِّ أوهى سببِ؟

أو مـا كنّا لـه في خطبـهِ

                  معقلَ الأمن ِ وجسرَ الهربِ؟

مـا لنا نلمـحُ فـي مشيتهِ

                   مخلبَ الذئـبِ وجلدَ الثعلبِ؟

يا لذلِّ العهدِ إن أغضى أسىً

                 فوقَ صدرِ الشرفِ المنتحـبِ!

يا روابي القدسِ يا مجلى السّنا

                يا رؤى عيسى على جفنِ النبي

دونَ عليائكِ في الرحبِ المدى

                 صهلةُ الخيلِ ووهجُ القضـُبِ !

لـمّتِ الآمـالُ مـنّا شملنا

                   ونمـتْ ما بيننا من نسـبِ

فإذا مصـرُ أغـاني جلّـقٍ

                  وإذا بغـدادُ نجـوى يثـربِ

ذهبـتْ أعلامُها خافـقـةً

                   والتقـى مشـرقُها بالمغـربِ

كلّما انقضَّ عليها عاصـفٌ

                       دفنتـهُ في ضلـوعِ السّحـبِ

بوركَ الخطبُ، فكم لفَّ على

                     سهمهِ أشتاتَ شعـبٍ مغضبِ

يا عروسَ المجدِ حسبي عزّةً

                      أن أرى المجدَ انثنى يعتـزُّ بي

أنا لولاهُ لمـا طوّفـتُ فـي

                            كـلِّ قفـرٍ مترامٍ مجـدبِ

ربَّ لحنٍ سالَ عن قيثارتي

                       هزَّ أعطافَ الجهادِ الأشـيبِ

لبـلادي ولـروّادِ الـسّـنا

                           كـلُّ ما ألهمـتِني من أدبِ

bottom of page